.أهمية نشر ثقافة الديمقراطية
شهد العالم اليوم إيمان المجتمعات الإنسانية من شتى أصقاع العالم، بضرورة الحياة الديمقراطية وأهميتها لوجود وأمن هذه المجتمعات، وأصبح مفهوم الديمقراطية ينتشر يوما بعد يوم بأبعاده الجديدة، ويصبح الشعار الذي ترفعه الشعوب الإنسانية عامة، في مواجهة تحديات القهر والظلم والعبودية.
واليوم، نرى حب الديمقراطية يتَّقد ويتنامى في قلوب البشر، وينهض الإيمان بها في عقولهم، ويتوهج عبقها في ضمائرهم. وإذا كان المحرومون يعملون اليوم على تحقيقيها بكافة السبل، فإن من يعيش في ظلها يتفانى في حماية عطاءاتها وتنمية قيمها ومبادئها. لقد أصبحت كلمة الديمقراطية لفظة ساحرة تداعب القلوب وتهدهد الأفئدة، وغدا النضال الإنساني من أجل تحقيقها قدر الإنسانية والبشر. فالديمقراطية، بما تنطوي عليه من قيم خلاقة، أصبحت مطلبا تاريخيا يمكنه أن يحرر البشرية من القهر والتعصب والإكراه والحرب. ومن هذا المنطلق، بدأ نداء الديمقراطية اليوم يتنامى في كل أنحاء الكون، وبدأ التشبث بمبادئها وبقيمها يترجم نزوع البشر إلى الحب والحياة والحضارة.
ورغم مناهضة الأنظمة الديكتاتورية، أيا كانت هنا في منطقة في الشرق الأوسط، أو في مناطق أخرى، فإن المدّ الديمقراطي وتناميه الكبير في النصف الثاني من القرن العشرين بات ينتشر، وأخذت هذه الظاهرة الديمقراطية تشد رحالها في كل مكان يمكنها أن تصل إليه. ولم يأت هذا المدّ الديمقراطي بانتصاراته المختلفة هبة من السماء، بل كان في كل خطوة ونقلة يترجم نضال البشر ومعاناتهم . فآلام البشر وهزائمهم ودماؤهم شكلت الضريبة التي دفعتها الأمم وما تزال تدفعها حبا بالديمقراطية وسعيا إلى تحقيقها.
ورأينا هناك الكثير من الدول تغير فيها الأنظمة الحاكمة، فالديمقراطية بانتصاراتها لا يمكن أن تنفصل عن أبعادها التاريخية والاجتماعية، وهذا يعني أن هناك كثيرا من المتغيرات الكبرى التي لعبت دورا كبيرا في الانتصار المد الديمقراطي، ويمكن أن يشار في هذا الصدد إلى انهيار النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السابق، ودوله التي تمزقت وأصبحت كيانات مستقلة عن بعضها. حتى روسيا اليوم سقط النظام الشيوعي هناك، وسقوط الأنظمة التسلطية في أوروبا، وظهور الحركات التي تنادي بالحرية والعدالة، والصراع من أجل الانتخابات الليبرالية في تشيلي وفي كينيا وتايلاند والفيلبين وفي بلدان أخرى كثيرة كانت أنظمتها تعتمد على التسلط والديكتاتورية. وكل هذه الأحداث تشير بقوة إلى رغبة أصيلة وشمولية عند البشر من أجل الحرية بصورة عامة والحرية السياسية بصورة خاصة.
وفي اللحظات التاريخية الصعبة التي يناضل فيها الشباب لبناء حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية على أسس ديمقراطية، وفي الأوقات الحرجة التي يسعى فيها هؤلاء لتأكيد أهمية الحقوق الإنسانية لمواطنيهم، يترتب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار قضايا هامة في الحسبان.
إن نجاح هؤلاء الشباب مثلا، مرهون وعلى نحو واسع وشامل بالطريقة التي تجذرت فيها مبادئ الحياة الديمقراطية وقيمها في قلوب ونفوس المواطنين، وإذا كانت المثل العليا التي أوقدت النضال الشعبي ضد القهر تريد أن تتحول إلى حقيقة حية تحافظ على وجودها عبر الزمن، فإن ذلك مرهون بمدى قدرة الجماهير على فهم طبيعة الديمقراطية ومعنى الحياة في داخل المجتمعات الليبرالية، وأن تدرك المعايير المؤسساتية والسلوك الذي يمكنهم أن ينهجوه في نسق ومسار الحياة الديمقراطية. إن ازدهار الحياة الديمقراطية يتطلب معرفة بعاداتها وقيمها واتجاهاتها ، كما يتطلب ذلك إيمانا بها لا يقبل الجدل، وهذا يعني أن صورة الحكم الديمقراطية لن تستمر إلا إذا استطاعت الأجيال المتعاقبة أن تدرك طبيعة الديمقراطية وسبل حركتها وآلية وجودها.
هذه الملاحظات لا تقف عند حدود الديمقراطيات الوليدة، فتعليم الديمقراطية يأخذ طابعا بالغ الأهمية حتى في المجتمعات التي رسخت فيها آلية الحياة الديمقراطية، ويشار بذلك إلى الفكرة السائدة التي تفيد بأن الديمقراطية في هذه المجتمعات قيمة مكتسبة بصورة عفوية، إذ غالبا ما يعتقد بأن الأنظمة السياسية التي تؤدي وظيفتها بشكل جيد هي أنظمة سليمة، وبالتالي فإن مبادئها لا تحتاج إلى دراسة وتمحيص، وعلى خلاف ذلك يذهب بعض المفكرين إلى التأكيد على الأهمية النسبية وإلغاء مبدأ الثقة في الأنظمة القائمة، وينجم عن هذه الرؤية الأخيرة أن النظام السياسي في حل من مراجعة نقدية ما لم يوضع في قفص الاتهام.
ومهما كانت الظروف صعبة بالنسبة للمجتمعات، إلا أن تعليم الديمقراطية مهما تكن رغبة الإنسان في امتلاك الحرية ذات طبيعة فطرية، فإنه لمن الضرورة بمكان تعلم وفهم طبيعة الديمقراطية وأسرار حركتها، وبالتالي فإن أي مجتمع يريد أن يبقى حرا عليه أن يؤكد على الأهمية الكبيرة للتعليم الديمقراطي وإدراك المبادئ الديمقراطية.
هذا يعني، أن جانبا كبيرا من المسؤولية يقع على عاتق المدرسة والمؤسسات التعليمية التي يمكنها أن تعلم الأطفال الديمقراطية من خلال الدراسة والحياة المدرسية، ومن خلال النشاطات المدرسية وغير المدرسية، ومن المشاركة والحياة المدرسية والتفاعل التربوي، ومع ذلك فإن التعليم ليس هو المدخل الوحيد إلى الديمقراطية في مجتمع ليبرالي. إذ يجب أن يوفر المجتمع دورات وبرامج إعلامية وتلفزيونية ومكالمات وصحف ونشاطات منظمة كل هذه تشكل مصادر حقيقية لتربية ديمقراطية متكاملة.
وإذا كان هناك من يشك بالأهمية السياسية للفعل الديمقراطي، يتوجب عليه أن يلاحظ الأهمية الكبيرة التي توليها الأنظمة الديكتاتورية للتربية، حيث تحاصر التربية في دائرة الضبط والرقابة الشاملة من قبل هذه الأنظمة التسلطية.
ومع ذلك كله، فإن غياب الحكومة التسلطية لا يؤدي إلى ولادة عفوية وسحرية للأنظمة الديمقراطية الثابتة والقوية. وهذا يعني أنه ومن أجل ذلك يجب أن يتعلم المواطنون الديمقراطية في مختلف مستوياتهم العمرية والاجتماعية، وهذا يعني أن مثل هذا التعليم يمكن المواطنين من الدفاع عن حقوقهم الديمقراطية وحماية مسار العمل الديمقراطي لمجتمعهم المعني.
الجزء الثاني: تمييز تعليم الديمقراطية عن التطبيع الذي تمارسه الأنظمة الديكتاتوري:
إن تعليم الديمقراطية يتم بصورة دقيقة عن طريق المقولات والخطب والاتجاهات والممارسات، وهنا في هذا المسار يمكن التأكيد على أهمية دراسة العقائد الأخرى والأنظمة الأخرى أيضا، وهذا التركيز لا يعني إخفاء عيوب النظام السياسي. فالديمقراطيون، وعلى خلاف ما هو معهود في الأنظمة العقائدية الأخرى، يعترفون بعيوبهم وأخطائهم وأخطاء بلدهم وأنظمتهم السياسية. وعندما يعرف أفراد المجتمع المؤسسات الديمقراطية وقيمها وطموحاتها ومشكلاتها في سياق التاريخ، وعندما يعرفون بدقة طبيعة الأنظمة السياسية الأخرى، فإن ذلك يزيدهم دفاعا عن الديمقراطية وارتباطا بمبادئها. ومع ذلك، فإن هذا الارتباط لا يجعلهم يعتقدون بأن نظامهم هو الأمثل، بل هو الأفضل بين خيارات سياسية متعددة.
وما يجدر ملاحظته في هذا السياق، هو أنه في إطار الديمقراطيات الناشئة أو هذه التي تأخذ طريقها إلى التكون والنشوء، فإن الأطفال الذين تكونوا في مدارس تخشى الفكر الديمقراطي لن يستطيعوا فهم وتقدير الديمقراطية إلا إذا تغيرت مناهج الدراسة بصورة كلية.
ومما لا شك فيه، فإن حجم التغيير سيكون كبيرا جدا بالنسبة لمجتمع لم تتح فيه للمعلمين ورؤساء المؤسسات فرصة الحياة الديمقراطية أو فهم الديمقراطية ودراستها. وفي مجتمع لم تبن فيه المناهج والمقررات التي تعالج المسألة الديمقراطية وتعالجها فالمناهج في مثل هذه المجتمعات ترهب الفكر الديمقراطي وتحاربه وتعلن عليه اللعنة، وهنا تبرز إحدى كبريات الصعوبات التي تعيق حركة الديمقراطية.
وتأسيسا على ذلك، يترتب على المسؤولين في قطاع التربية في المجتمعات الناهضة ديمقراطيا أداء مهمة صعبة جدا، ولحسن الحظ فإن هؤلاء التربويين ليس عليهم أن يرتجلوا كل شيء، فبعض البلدان لها تجربة غنية في تدريس الديمقراطية وتعليمها، ويمكن لنا أن نسوق عددا من التجارب العالمية الهامة في هذا المجال. والقضية هنا، ليست أبدا في تقديم رؤية مفصلة حول سبل تعليم الديمقراطية، وذلك لأن محاولة من هذا النوع غير مرغوبة وغير ممكنة في الآن الواحد، وهي محاولة قد تكون مناقضة لروح الحياة الديمقراطية، مع ذلك يمكن تقديم نماذج عديدة يمكنها أن تعتمد في ثقافات متعددة ومتنوعة.
لكن، وقبل أن نتعرض لبعض النماذج يترتب علينا أن نحدد ماهية الديمقراطية وطبيعتها بصورة واضحة، ولا سيما هذه الديمقراطية التي يجب أن نتعلمها ونفهمها.
على الرغم من الحماس الكبير للمفهوم الديمقراطي، فإن هذا المفهوم يعاني وبصورة راديكالية من سوء الفهم والتحديد. فبعض الأنظمة الديكتاتورية والشمولية تقدم نفسها على أنها أنظمة ديمقراطية، وتقدم نفسها أيضا على صورة جمهوريات ديمقراطية، في حين أن الدساتير المعلنة لهذه البلدان لا تضمن في حقيقة الأمر غير حقوق وحريات لا وجود لها . فالبلدان التي تخرج من دائرة الأنظمة الديكتاتورية حيث عرفت التسلط والإكراه على مدى عشرات السنين وكان فيها القهر هو القاعدة، تسعى إلى فهم بسيط للديمقراطية قوامه ضمان الحرية الفردية وبعض الحقوق، وهي لا تقدم الديمقراطية بوصفها منظومة معقدة من الأفكار والمؤسسات والحقوق والتعهدات.
فالديمقراطية هي نظام حكم مستقل، يكون فيه المواطنون على السواء أمام شروط الحياة والقانون، وهو نظام تتخذ فيه القرارات السياسية بالأكثرية، وذلك دون احتقار لحقوق وآراء الأقلية السياسية. وفي ظل هذا التطور، تؤكد الديمقراطية لمواطنيها إمكانية المشاركة مباشرة في اتخاذ القرار وتلك هي الديمقراطية التي تسمى ديمقراطية مباشرة.
ومع الأخذ بالأهمية الكبيرة لدرجة التطور والتعقيد في المجتمعات المعاصرة، فإنه يمكن للمواطنين وبكل بساطة انتخاب ممثليهم الذي يحكمون ويتخذون القرار، فالديمقراطية الممثلة هي هذه التي ترتكز على انتخابات ليبرالية حرة منظمة وشريفة وتعددية التي تجعل من الحكومة مسؤولة أمام الشعب، وفي هذه الديمقراطية فإن الحكومة توجد لخدمة الشعب وليس العكس. وبافتراض أن الحكومات الديمقراطية تستمد سلطاتها من اتفاق المحكومين فإن هؤلاء المحكومين يمتلكون سلطة تغيير الحكومة بطرق سلمية، وذلك عندما يفقدون ثقتهم بها، وذلك دون عنف أو إكراه.
وإذا كانت قاعدة الأكثرية هي القاعدة الأساسية التي يرتكز إليها النظام الديمقراطي، فإن قاعدة الأكثرية المبسطة تؤدي إلى صعوبات وتحديات.
فهذه القاعدة، تجري عادة في الإطار الدستوري الذي يحدد سلطات الحكومة ويعمل على حماية حقوق الأفراد والأقليات، وهذا يعني أن الأفراد في ظل النظام الديمقراطي الدستوري يمتلكون حقوقا أساسية، وبالتالي فإن ممارسة مثل هذه الحقوق من قبل أقليات لا ترتهن بإدارة الأكثرية، ويضاف إلى ذلك بأن هذه الحقوق مضمونة عبر آليات يصعب تغييرها، على سبيل المثال : يضمن الدستور الأميركي حرية التعبير والعبادة والاجتماع والعدالة، ولا يسمح بالتالي لأية سلطة فيدرالية أو حكومية إجراء تعديل حول هذه الحقوق، وهذا يعني أنه من الضرورة بمكان أن ينطوي النظام الديمقراطي على معايير ضابطة، بحيث لا يمكن لأي شخص أن يستولي على السلطة أو يحتكرها، وبالتالي فإن الجهاز القضائي يجب أن يكون مستقلا وأن يكون قادرا على منع التطرف والمبالغة، وبالتالي فإن الجهاز القضائي يعمل بصورة مستقلة وينبني على ذلك أن أي فرد أو عضو في الحكومة مهما يكن أمره لا يستطيع أن يمنع من وصول الناس إلى حقوقهم.
ومع ذلك، إذا كانت الديمقراطية تخضع لاحتمالات الفشل - وذلك لأن الحكومة تأخذ السلطة وتمتلكها بقوة - فإن هذه الديمقراطية تستطيع أن تستعيد اعتبارها خلال فترة قصيرة، وذلك عندما لا تمتلك السلطة إلا نفوذا محدودا. فالعملية الديمقراطية، تستند إلى مبدأ الإخلاص والوفاء وليس إلى مبدأ السلبية أو الفوضى.
إن زعامة السياسيين مرهونة أيضا بمدى مصداقية الحكم الديمقراطي. وبالتالي، فإنه يترتب على المواطنين احترام قرارات ممثليهم والقوانين التي تسود في المجتمع، (وذلك بشرط ألا تؤدي إلى تعطيل أي من الحقوق السياسية). وعلى عكس ما يعتقده البعض، فالمجتمع الديمقراطي ليس مسرحا يؤدي الأفراد عليه أدوارهم. وإذا كانت الحرية هي غاية الديمقراطية الموعودة، وإذا كانت الفرص الاقتصادية الجديدة من سمات الديمقراطية، فإنه لا يجب على الإطلاق أن ننسى مع ذلك -كما هي العادة دائما- بأن ازدهار الديمقراطية عملية مرهونة بالمسؤولية وباكتساب مجموعة من الاتجاهات والقيم، فالناس في مجتمع ديمقراطي يشاركون في الحياة السياسية لمجتمعاتهم ويمارسون تأثيرهم في معترك الحياة العامة، وهم يستطيعون أن يفعلوا ذلك عبر التصويت، وذلك من أجل أن يمثلوا في الحكومات العام والمجلس وبالانتساب إلى مؤسسات أخرى. ومن أجل أن تكون هذه المشاركة فعالة، يتوجب على الأفراد أن يعرفوا بدقة المشكلات التي يعاني منها المجتمع، وأن يأخذوا بعين الاعتبار الأهمية الكبرى لمشاركتهم واهتماماتهم الشخصية أو الاجتماعية، وذلك فيما يتعلق بالشأن العام. لذا، فإنه يتوجب عليهم قبول مبدأ الاختلاف والتعارض وتحسس أهمية التعاون، والعمل على تقدير القانون وإعلاء شأنه وشأن السلطات الشرعية، فالديمقراطية بالنتيجة ليست نظاما سياسيا بسيطا، بل هي طريقة في الحياة والوجود والعمل المشترك. وعندما يباشر المواطنون مسؤولياتهم المتنوعة وحقوقهم الديمقراطية فإن هذه الديمقراطية تأخذ طابع الوجود والاستمرارية، وتحقق جوهرها التاريخي.
الجزء الثالث: التعاليم الديمقراطية في المناهج التعليمية