اشكالية الديمقراطية والانتخاب
من الاشكاليات الشائعة في هذا المجال هي اشكالية الخلط بين الديمقراطية والانتخاب، ليس على المستوى الشعبي فحسب انما على المستويات الرسمية الممثلة بأدبيات الاحزاب السياسية والبرامج الحكومية وما شابه من مستويات ينبغي ان تكون مخلصة للحقائق الموضوعية والاحداث الواقعية. وبناءً على هذا الخلط تعتبر الغالبية العظمى من حكومات بلدان العالم نفسها بأنها حكومات ديمقراطية لمجرد توفر مايشبه الانتخاب او شئ منه مهما صغر شأنه وتشوه منحاه. في استفتاء عالمي جرى عام 2006 وصفت كل حكومات العالم نفسها بأنها حكومات ديمقراطية ماعدا حكومات الخليج العربي (السعودية، الكويت، قطر، البحرين، الامارات، وعمان) اضافة الى سلطنتي بروناي وفوتان الصغيرتان في الشرق الاقصى، حيث لم تجرؤ هذه الحكومات ان تدعي الديمقراطية!
فبالرغم من ان الانتخابات تمثل ركنا أوليا واساسيا في النظام الديمقراطي، فلا يمكن مطلقا ادعاء الديمقراطية لمجرد حصول الانتخابات. علما ان الديمقراطية الحقيقية لاتشمل الا الانتخابات الحرة والعادلة والمنظمة بموجب المعايير العالمية المعروفة والخاضعة الى التدقيق والموازنة والتي يشرف ويصادق عليها لجان نزيهة وكفوءة ومستقلة. ولذلك، فحتى لو شاء للانتخابات ان تستوفي كل المواصفات المذكورة فسيبقى من غير المعقول مساواتها بالديمقراطية لانها مجرد جزء بسيط منها. ومن هنا يمكننا القول بان الديمقراطية الحقيقية لايمكن لها ان تتجسد بجدارة في أي مجتمع الا اذا تجاوزت كونها مجرد مجموعة من الانظمة والقواعد الى كونها منهج حياة شامل وسلوك اجتماعي عام ونمط تفكير، ليس فقط على المستوى الرسمي انما على المستويات الشخصية والفردية ايضا.
ركائز الديمقراطية
يستند النظام الديمقراطي الحقيقي على الركائز الرئيسية التالية:
* سيادة الشعب: أي ان الارادة الجمعية هي المرجع الاول والاخير لكل مايجري في البلاد، الامر الذي يفترض غياب اي تفرد او استبداد او استئثار من قبل اي فرد او مجموعة مهما كان السبب وتحت اي ظرف. في معرض ترديده لتعريف الديمقراطية، توسع الرئيس الامريكي السادس عشر ابراهام لنكن ( 1809-1865) قائلا: " الديمقراطية تعني ان تكون هناك حكومة من الشعب والى الشعب وبواسطة الشعب ".
* دستور وطني شامل يكتب ويناقش ويقر كونه القانون الاسمى للبلاد ودليلها العام.
* حكم القضاء الحر المستقل الذي يحتكم الى الدستور الوطني ولايسمح لأي أحد مطلقا ان يرقى فوق القانون. لقد عبر عن ذلك جان آدمز، الرئيس الثاني للولايات المتحدة (1735-1826) خير تعبير بقوله " لايحكم الرجال في الديمقراطية الدستورية، انما تحكم القوانين".
* مساواة المواطنين امام القانون وضمان الحقوق الانسانية والحريات المدنية للجميع.
* التعددية السياسية والحرية الكاملة للعمل السياسي. ومن الممكن ان يجيز الدستور الوطني منع وتحريم العمل في توجه سياسي معين اذا اثبت التاريخ واشارت الدلائل الواقعية الى عدم اهلية ذلك التوجه السياسي لخدمة الشعب ونزوعه الى الدمار والتخريب.
* فصل السلطات الرئيسية الثلاث وموازنة ومراقبة ادائها المتبادل من اجل منع التحزب والتكتلات والحيلولة دون حصول الفساد وتنامي الاستبداد والتهميش. يجري عادة ان تقوم السلطة التشريعية (البرلمان) والسلطة التنفيذية (الرئيس ورئيس الوزراء والوزراء) بمراقبة وتقويم اداء بعضهما، فيما تعمل السلطة القضائية الفدرالية العليا على ضمان حصول كل شئ بموجب الدستور الوطني وتبعا للقانون، كما تعمل كونها الجهة الاخيرة التي يحتكم اليها الجميع.
* فصل الدين عن الدولة: وهذه ركيزة اساسية لايمكن للديمقراطية الحقيقية ان تتجاوزها اوتقوم بدونها مطلقا وبتاتا مهما حاولت التنظيرات التبريرية التي تروجها الاحزاب والتجمعات الدينية التي تُلبس النشاط الديني معطفا سياسيا او تغطي النشاط السياسي بغطاء ديني.
* فصل العمل العسكري عن العمل السياسي وضمان السيطرة المدنية على القوات المسلحة: تكتسب هذه الركيزة اهمية استثنائية في البلدان التي يحفل تأريخها بالتسلط العسكري والانقلابات الثورية. وبذا ينبغي على النظام الديمقراطي الناشئ ايلاء الكثير من الاهتمام الى اعادة تأهيل وتعليم وتدريب منتسبي القوات المسلحة على فهم واستيعاب وتقبل وممارسة المنهج الديمقراطي والتركيز على ان مهمة القطاع العسكري الاولى والاخيرة هي حماية البلاد وصيانة سيادتها ضمن الاطار الذي يحدده الدستور الوطني وتحت أمرة السلطة التنفيذية.
* انتخابات شعبية حرة تنافسية منظمة تخضع لمعايير دولية وتدار من قبل هيئة وطنية مستقلة وكفوءة ونزيهة.
* هيكل شامل ومتشعب من منظمات المجتمع المدني ومؤسسات وجمعيات النشاط المهني التي تتمتع بشرعيتها وسلطتها المستقلة وتسهم في اشاعة الثقافة الديمقراطية وتوسيع ممارستها وترسيخ اخلاقيتها. وهنا تجدر الاشارة الى ضرورة لجوء هذه الكيانات الى الاعتماد على النفس والاكتفاء الذاتي ونبذ الارتباطات السياسية والمالية مع الحكومة.
* نظام تعليم حر مستقل يعيد النظر في المناهج التربوية والتعليمية معتمدا على التحليل العلمي والجدل الموضوعي ومواكبا أحدث التطورات العلمية والتكنولوجية. يصاحبه برنامج ثقافي شامل يعتمد الحرية والابداع ويعيد صياغة التوجه الثقافي بما يرسخ قيم السلام والتعددية والتسامح واحترام الاختلافات، وينمي سلوك حل النزاعات بالطرق السلمية، ويعزز مشاعر المواطنة والولاء للارض والشعب.
* اقتصاد حر مستقل وقوي يركز على استثمار الثروات الطبيعية والبشرية في البلاد ويرتبط بالعالم الخارجي بعلاقات براغماتية تصون المصالح المشتركة المتكافئة وتدر العائد الاقتصادي الاقصى.
* صحافة حرة مستقلة ومتعددة المصادر والقنوات ومتباينة التوجهات، الامر الذي يجعل من عملها الجمعي وسيلة لتعزيز الوضوح والشفافية واداة لكشف الحقائق ومتابعة عمل النظام الديمقراطي وتقويم اداءه.
* التداول السلمي للسلطة: يؤدي نظام الانتخابات الى ان تفوز جهة وتخسر جهة اخرى. على ان الفوز والخسارة يقيسان مدى ثقة الشعب بالمرشحين. ففي حين تنصرف الجهة الفائزة لادارة شؤون الحكم، تنصرف الجهة الخاسرة الى تشكيل المعارضة التي تركز على مراجعة برنامجها وتحليل اخطائها والتهيؤ لاكتساب ثقة الشعب في الدورة الانتخابية اللاحقة. كما انها تعمل قصارى جهدها لمتابعة ومراقبة اداء الحكومة الجديدة وتقويمه عن طريق النقد البناء. واذا حدث ان تفوز هذه الجهة في المرة القادمة سيتم تبادل السلطة بسلام وانسجام وتتحول الجهة الاولى الخاسرة هذه المرة الى قوة معارضة. وهكذا سوف تؤدي المنافسة الحرة النزيهة بين الاطراف الى السباق لتقديم الخدمات الافضل للشعب من دون قتل او سجون او تعذيب او نفي.
* وأخيرا وليس آخرا فإن من ركائز الديمقراطية الاساسية هي الحكومة القوية الصارمة والعادلة المدعومة بقطاعي الجيش والشرطة وكل مايستلزمان من امكانات التسليح والتدريب الحديثة. ان سياسة الحرية والتسامح ونبذ الاستبداد وانهاء القمع لاينبغي مطلقا ان تفسر كمؤشر لضعف النظام وعجزه عن مواجهة اعدائه في الداخل والخارج. على الحكومة الديمقراطية ان تكون في منتهى اليقضة والحذر مما قد يحاك ضدها من مؤامرات. كما عليها ان تكون مستعدة ان تضرب بيد من حديد على قوى الارهاب والتخريب والشغب، وتقض مضاجع المفسدين والمختلسين والعابثين بالاموال العامة ومبذري الثروات الوطنية. لكنها ينبغي ان تعتمد سلطة القانون وتستند على الادلة الدامغة ولاتنقاد وراء الاشاعات والدسائس، او تنحدر الى درك الفضائح والثأر والانتقام.
حكم الاغلبية وحقوق الاقليات
طالما ان الديمقراطية تفترض المساواة بين المواطنين وتعتبرهم احرارا في التعبير عن مشاعرهم وتهيئ لهم نظام التصويت لاتخاذ قراراتهم، يترتب على هذا ان يصار الى تبني القرار الذي تتخذه اغلبية المصوتين ورفض القرار الذي تتخذه اقلية المصوتين. لكن هذا النظام المعقول والمنصف عمليا قد لايكون عادلا في بعض القضايا الحيوية التي قد تخسر فيها الاقلية قرارت تتعلق بمصير وجودها او قرارات تتعرض الى الحقوق المدنية والانسانية لتلك الاقلية. ومن هنا قد ينشأ مايسمى بـ "طغيان الاغلبية". تلك الظاهرة المحتملة التي تضع مسؤولية كبيرة في عنق النظام الديمقراطي الحقيقي وتلزمه باتخاذ الاحتياطات اللازمة والعمل على تثبيت المواد الدستورية الكفيلة بمنع حصول مثل ذلك الطغيان. على الدستور الديمقراطي الحقيقي ان يكون صريحا وواضحا في ترسيخ موضوعة ان حكم الاغلبية ليس حكما مطلقا بل ينبغي ان يكون ملازما لمبدأ صيانة حقوق الاقليات ومصحوبا بضمانات دستورية تثبت تلك الحقوق وتجعلها غير خاضعة للابطال او الالغاء. كما ان على الثقافة الديمقراطية الحرص والعمل على ان لايفهم موضوع صيانة حقوق الاقليات لا لكونه منحة او مكرمة او فضل تجود به الاغلبية على الاقلية ولالكونه ورقة مساومة تلوح بها الاغلبية لانتزاع تنازلات الاقلية، انما هي حقوق طبيعية مشروعة ومستحقة شأنها شأن حقوق الاغلبية. في الحقيقة ان من صالح الاغلبية ان تصون حقوق الاقلية لان في ذلك اضفاء الشرعية الاكبر لحكم الاغلبية. لقد صرح توماس جيفرسن، الرئيس الثالث للولايات المتحدة (1743-1826) بأنه "سوف لن يكون لحق الاغلبية اي اهمية او معنى اذا تسبب هذا الحق بفقدان حق الاقلية".